من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء وفي البقاء عمارة الكون.
فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها، فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم وما البيت إلا الوطن الصغير.
فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه.
فإذا دخل ميدان الحياة وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه- شعر نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ولما فيه- كما تقدم- من غريزة حب الذات وطلب البقاء، وهؤلاء هم أهل وطنه الكبير، ومحبته لهم في العرف العام هي الوطنية.
فاذا غذي بالعلم الصحيح، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية وكانت الأرض كلها وطنا له وهذا هو وطنه الأكبر. هذا ترتيب طبيعي لا طفرة فيه ولا معدل عنه، فلا يعرف ولا يحب الوطن الأكبر إلا من عرف واجب الوطن الكبير، ولا يعرف ولا يحب الوطن الكبير إلا من عرف وأحب الوطن الصغير. والناس إزاء هذه الحقيقة أربعة أقسام:
1 - قسم لا يعرفون إلا أوطانهم الصغيرة، وهؤلاء هم الأنانيون الذين يعيشون على أممهم كما تعيش الطفيليات على دم غيرها من الحيوان، وهم في الغالب لا يكون منهم خير حتى لأقاربهم وأهل بيتهم.
2 - وقسم يعرفون وطنهم الكبير فيعملون في سبيله كل ما يرون فيه خيره ونفعه ولو بإدخال الضرر والشر على الأوطان الأخرى بل يعملون دائما على امتصاص دماء الأمم والتوسع في الملك لا تردهم إلا القوة. وهؤلاء شر وبلاء على غير أممهم ، فهم مصيبة البشربة جمعاء.
3 - وقسم زعموا أنهم لا يعرفون إلا الوطن الأكبر وأنكروا وطنيات الأمم- كما أنكروا أديانها- وعدوها مفرقة بين البشر. وهؤلاء عاكسوا الطبيعة جملة وما عرفته البشرية منذ آلاف السنين ودلائل الفشل على تجربتهم حيث أجروا تجربتهم لا تكاد تخفى.
4 - وقسم اعترف بهذه الوطنيات كلها ونزلها منازلها غير عادية ولا معدو عليها، ورتبها ترتيبها الطبيعي في تدرجها، كل واحدة منها مبنية على ما قبلها ودعامة لما بعدها. وآمن- هذا القسم- بأن الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في يته ووطنه الصغير وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر.
وهذا الرابع هو الوطنية الإسلامية العادلة. إذ هي التي تحافظ على الأسرة بجميع مكوناتها وعلى الأمة بجميع مقوماتها وتحترم الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها.
عبد الحميد بن باديس ، مجلة الشهاب ، الجزء السابع ، ص ، ص : 304 – 307 (بتصرف)
* ملاحظة النص واستكشافه :
1- العنوان : عنوان النص مركب عطفي يتألف من ن ثلاث كلمات :
- الوطن : وهو اسم لمكان إقامة الإنسان
- الواو : حرف عطف يدل على علاقة بين المعطوف والمعطوف عليه
- الوطنية : وهي مجموع الصفات التي تجعل الإنسان مواطنا متمسكا بوطنه ومحبا لبلاده
2- بداية النص : تنسجم مع الجزء الأول من العنوان ، لأنها تشير إلى فطرة في الإنسان تجعله شديد الارتباط والتعلق بوطنه ، وهذه الفطرة هي حب الذات.
3- نهاية النص : تنسجم مع الجزء الأخير من العنوان لأنها تشير إلى الوطنية الإسلامية العادلة وتبرز أهميةتها وفائدتها.
4- الصورة المرفقة بالنص: هي صورة مركبة تمثل الكرة الأرضية وحولها أطفال من جنسيات مختلفة مما يوحي بأن الوطن المشترك بين البشر هو كوكب الأرض ، وأن الوطنية الحقة هي التضامن والتآخي والتعايش بين الشعوب والأجناس المختلفة.
5- نوعية النص : مقالة تفسيرية ذات بعد وطني.
* فهم النص :
1- الإيضاح اللغوي :
- نواميس : مفردها-ناموس : قانون أو شريعة
- العرف العام : ما تعارف عليه الناس في عاداتهم ومعاملتهم
- طفرة : انتقال وتغير سريعين.
1- الفكرة المحورية :
مفهوم الوطن والوطنية وعلاقة الناس بأوطانهم
* تحليل النص :
1- الأفكار الأساسية :
أ- تغير مفهوم الوطن بالنسبة للإنسان بحسب مراحل حياته :
مراحل حياة الإنسان
|
في الطفولة
|
إذا دخل ميدان الحياة
|
إذا غذي بالعلم الصحيح
|
مفهوم الوطنية
|
الوطن = البيت والأهل
(الوطن الصغير) |
الوطن = مكان المشتركين في نفس التاريخ والمصير واللغة…
(الوطن الكبير) |
الوطن = الإنسانية جمعاء.
(الوطن الأكبر) |
ب- أقسام الناس إزاء نظرتهم للوطن :
أقسام الناس
|
الأنانيون
|
الجشعون
|
العبثيون
|
التوفيقيون أو العادلون
|
نظرتهم للوطن
|
لا يعترفون إلا بأوطانهم
|
لا يهمهم إلا التوسع في الملك ولو على حساب الأوطان الأخرى
|
وهم المخالفون لسنن الطبيعة في تعاملهم مع أوطانهم
|
هم يعترفون بأوطانهم الصغيرة دون نسيان غيرهم من الأوطان الأخرى
|
* التركيب والتقويم :
يتضح مما سبق أن الوطن مفهوم يتغير بحسب درجة وعي الشخص وثقافته ، وأن الوطنية صفة نابعة من علاقة الإنسان بهذا الوطن تزداد بحبه لوطنه وتنقص بعبثيته وعدم مبالاته بوطنه. وقد ترتب عن هذه العلاقة اختلاف في الرؤى ووجهات النظر تجاه الوطن بين الأنانيين المحبين لأوطانهم دون سواها ، والجشعين ذوي التفكير الاستعماري ، والعبثيين المخالفين لسنن الطبيعة ، والتوفيقيين المعتزين بأوطانهم وسائر الأوطان الأخرى. وهذا الصنف الأخير هو الذي يمثله ديننا الحنيف ويدعو إليه.
يتضمن النص قيمة وطنية تتجلى في إبراز أهمية الوطن بمفهومه الشمولي وعدم الاقتصار على النظرة التجزيئية التي لا تعترف إلا بالوطن الصغير.
إرسال تعليق