* النص القرائي
مدرسة الحياة
بعد الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى حلب لمتابعة تعليمي لأنه لم تكن بقريتي مدرسة ثانوية. حدث بعد ذلك ما اعتبرته المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ما كان ذلك المرض، الذي أذكره أن الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي في مستشفاه أشار على أبي بأن أنقطع عن الالتحاق بالمدرسة عاما كاملا . وبقيت عامين بعده في القرية بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه في إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك.
كان ذلك مصيرا قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة . لكن رب ضارة نافعة. كانت هذه الأعوام الثلاثة المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدى وتحت إشرافه . عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها.
أتاح لي ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم على جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الخيول.
أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورواية أحداث سالفة وجديدة . هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربته أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث الكهول عن شؤون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها. وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو على رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فصلا من كتاب فتوحات الشام للواقدي . وكان تلامذة مدرستنا الوحيدة في البلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها "وفاء السموءل"، كنت أحضر معهم تداريبها وأشاركهم في إعدادها ، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة ، كانت أول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيان ليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمى، ولكنه ذكر اسمى بأعلى صوته منوها بناظم القصيدة، فكان لذلك وقع حسن على أقاربي الذين لاموا أبي على حرماني من متابعة الدراسة ، مما اضطره إلى إعادتي إلى حلب لمتابعة مسيرة دراسية ناجحة.
عبد السلام العجيلي ، أبحرت في كل الموانئ ، مجلة العربي ،عدد 486 ، الكويت ، ماي 1999.
* بطاقة التعريف بالكاتب :
مراحل من حياته :
|
أعماله :
|
- ولد في الرقة عام 1918 - درس في الرقة وحلب وجامعة دمشق ، وتخرج منها طبيبا عام 1945 - انتخب نائبا عن الرقة عام 1947 - تولى عددا من المناصب الوزارية في وزارات الثقافة والخارجية والإعلام عام 1962 - توفي في 05 أبريل 2006 | - الليالي والنجوم (شعر 1951) - باسمة بين الدموع (رواية 1959) - فارس مدينة القنطرة (قصص 1971) - في كل واد عصا (مقالات 1984) - أحاديث الطبيب (قصص 1997) - مجهولة على الطريق( قصص 1997) |
1- العنوان :
- تركيبيا : يتألف عنوان النص من كلمتين تكونان فيما بينهما مركبا إضافيا من نوع الإضافة المعنوية التي تفيد التعريف.
- معجميا : ينتمي العنوان إلى المجال الاجتماعي
- دلاليا : إضافة لفظة “الحياة” إلى المدرسة يدل على اعتبارها (أي الحياة) مجالا للتعلم ، فالتعلم قد يكون في المدرسة النظامية أو في مدرسة الحياة.
- ينسجم العنوان جزئيا مع بداية النص ونهايته ، حيث ورد فيهما ما يدل على المدرسة فقط (كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل… – … لمتابعة مسيرة دراسية ناجحة.)
- ينسجم العنوان كليا مع الفقرة الثالثة من النص ، حيث ورد فيها ما يدل على المدرسة والحياة معا (… وممارسة الحياة والنتعامل المباشر مع أمورها . تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحت إشرافه.)
2- نوعية النص :
بالنظر إلى هيمنة الجمل الفعلية في النص ، و تضمنه مؤشرات دالة على الزمان والمكان والشخصيات ، و استعمال ضمير المتكلم في الحكي ، نكتشف أن النص :
مقطع من سيرة ذاتية ذات بعد اجتماعي
* فهم النص :
1- الإيضاح اللغوي :
- الدولاب : أداة مستديرة تدور حول مركزها ، فتهيئ للعربة أن تسير وللآلة أن تنقل حركتها
- القنباز : لباس للرجل واسع في أسفله ، ضيق في أعلاه ، مفتوح في مقدمته ، يلف الجسم ويحزم على وسطه
- منعطف : منعرج ونقطة التحول
- جابيا على غلتها : جامعا لمحصولها وأرباحها
2- الحدث الرئيسي الذي يختزل النص :
سرد الكاتب أحداثا من طفولته حيث انقطع عن الدراسة ليلتحق بمطحنة والده ، وليتعلم الكثير من مدرسة الحياة ، ورجوعه إلى المدرسة من جديد بعد اثباته جدارته بذلك.
* تحليل النص :
1- أحداث النص بوصفه سيرة ذاتية :
عمليات التحول
|
حالة البداية
|
الحدث المحرك
|
العقدة
|
الحل
|
حالة النهاية
|
تذكر السارد لحدث بارز في حياته وهو المزاوجة بين الدراسة والتردد على مطحنة والده | مرض السارد وانتقاله إلى حلب للعلاج | انقطاعه عن الدراسة وبقاؤه في القرية لمساعدة والده | الاستفادة والتعلم من مدرسة الحياة ، وإبراز مؤهلاته ومواهبه الإبداعية | الرجوع إلى المدرسة من جديد |
* الألفاظ والعبارات الدالة على اجتهاد السارد وشغفه بالاطلاع والتعلم :
- قراءاته الكثيرة – أتلقى المعرفة – أصبحت على معرفة بالقبائل… – مستمعا إلى أحاديث الكهول – نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة – مسيرة دراسية ناجحة ….
*
ما يدل على المدرسة النظامية | - ما يدل على مدرسة الحياة |
- الدراسة الابتدائية – متابعة تعليمي – مدرسة ثانوية – أنقطع عن الالتحاق بالمدرسة…. | - مدرسة من نوع آخر – مخالطة الناس – ممارسة الحياة – مدرسة العمل إلى جانب والدي… |
3- العلاقة بين السارد والشخصية الرئيسية :
تمة تطابق بين السارد والشخصية الرئيسية : ( السارد = الشخصية الريسية )
4- الاسترجاع والاستباق :
معظم أحداث النص سردها صاحبها بالاعتماد على تقنية الاسترجاع ، وتدل على الاسترجاع عبارات من قبيل : حدث في إحدى مرات … – الذي أذكره…. - كنت أحضر معهم ….
أما الاستباق ، فنجد السارد يستبق الأحداث في موقفين على الأقل ضمن هذه السيرة الذاتية :
- الأول : عند انتقاله من الحديث عن مرضه إلى التذكير بمهنته (لا أذكر اليوم وأنا الطبيب ما كان ذلك المرض)
- الثاني : في نهاية النص للإشارة إلى النجاح الذي سيحققه في دراسته ( لمتابعة مسيرة دراسية ناجحة )
* التركيب و التقويم :
استطاع السارد بفضل مثابرته وإصراره أن يحول مشكلة انقطاعه عن الدراسة لصالحه ، فعملا بالمثل القائل “رب ضارة نافعة” حول السارد ذلك المصير القاسي الذي تعرض له إلى أمل ، وراح مقبلا على الحياة بكل تفاؤل مستغلا شغفه بالاطلاع والتعلم ، وتلقى المعرفة من مدرسة الحياة ، وطور نفسه وأبرز موهبته وعبقريته.. وبعد ثلاث سنوات عاد السارد لمواصلة دراسته بنجاح وتفوق.
يتضمن النص قيمة اجتماعية تتمثل في كون الحياة مدرسة ثانية تفيد الإنسان وتساهم في التنشئة الإجتماعية وتطوير الفرد والمجتمع.
إرسال تعليق