كان الليل وكان بلد الهنود يلتف بظلام شديد حالك. ورغم ذلك كانت مجموعة من الرجال تتقدم عبر الدرب الممتد على طول خليج “الثعابين” مختبئين تحت الأحراج الكثيفة. كانو يتقدمون بخطوة الذئب، ويتجنبون وطء الأغصان الصغيرة ، دون أن يهمسوا بكلمة. كان " الداكوتاش" قد اندفعوا لساحة الحرب وها نحن نرى المحاربين يسرعون لمفاجاة العدو قبيل حلول الصباح. كانو يسيرون ويركضون في صمت. وكانت تتقدمهم قوة استطلاع فيما ظلت المؤخرة إحدى الفريقات لتحميهم من أية مفاجأة.
         وانحدر الدرب عن المرعى ، ليقودهم نحو أيكة صغيرة .((لنسترح)) قال لهم الزعيم رافعا صوته لأول مرة. وأضاف : (( المكان معزول يمكننا أن نشعل نارا)) . وعلى الفور جمع المحاربون كومة من الأعشاب والأخشاب المتساقطة . وسرعان ما التمعت النيران . فجلسوا حولها في استرخاء. أخذ البعض يصلح حذائه المقطوع. فيما رجع بعضهم الى الأقواس والسهام بينما أخد آخرون يعدون وجبة للأكل. وأثناء انتظارهم العشاء. أخذ البعض يحكون حكايات معارك ومغامرات عجيبة حدثت منذ زمن بعيد جدا. كانوا يتحدثون عن طلسم ذي قوة خارقة. كان قد حافظ على حياة العديد من المحاربين . وكانو يحكون كيف أن جعبة سحرية كانت تحول سهام الأعداء إلى سلاح يرتد الى قلب من أطلقوها . وكانت النار تصغي – في صمت - لتلك الحكايات وهي تطلق دخانها حتى أطراف الأوراق الخضراء . ولكن ، في اللحظة التي قام بها عجوز أشيب ليؤدي الصلاة الرسمية. أخذت النار ترتفع وتصطك ، وهي تلقي بالشرر في كل الاتجاهات.
          وفي اللحظة نفسها . حدثت ظاهرة أشد غرابة  فقد ارتفع غناء من بين الأشجار المجاورة . ارتفع الصوت. واتسع إلى أن ملأ الأيكة كلها بترنيمه ، ثم رق وامتد ناعما ليختلط بتنهيدات الريح ، فهمس الزعيم :(( اطفئوا النار)) وابتعد في الظلام . وبدا القمر وكأنه يستجيب لأوامر سرية ، فخرج  عندذ من بين السحب ، فأضاء انعكاس ضوئه الشاحب جذوع أشجار البتولا الفضية. وتقدم المحاربون_ في حذر_ بين الأعشاب الرطبة ، وهم يراقبون ، حذرين ، ظلال الأشجار المحنية التي كانت تتأرجح مع الريح . كان الغناء مستمرا أبدا ،  وكان يتزايد وضوحها كلما اقتربوا من شجرة دردار أعلى من كل الاشجار الأخرى ، في الحد الأقصى من الغابة الصغيرة. عندئذ تلتحق المحاربون في دائرة واسعة حول الشجرة الغامضة . وأخذوا يتقدمون ببطء خطوة خطوة ، وأخذت دائرتهم تضيق والغناء يتصاعد ، إلى أن بلغ ذروة النغمة العالية ، فانطفأ بالسرعة التي بدأ بها. و بدأ المحاربون - الذين تجمعوا ، الان ، تحت شجرة الدردار الجليلة-  يفحصونها من أعلى لأسفل ، وهم يفتشون جذعها الذي أتلفته تقلبات الجو . وجذورها المتشابكة.
           عندئذ وداخل تجويف بين الجذور ، اكتشفوا كومة صغيرة من عظام هيكل عظمي كساه البياض . كانت بقايا محارب مجهول ، وبجوار الجمجمة كان يرقد قوسه المحطم ، وعن بعد قليل ، كانت بعض السهام مبعثرة. فقال لهم الزعيم محطما الصمت المسترخي بالمكان ،" ماسمعناه لتونا ورأيناه يشير إلى أن هذا المكان هو آخر مكان ارتاح فيه بطل ضحى بحياته من أجل الاخرين". ثم واصل كلامه : " إن الموت نفسه لايمكن أن يخرس صوت بطل كهذا . إن غناءه يستمر- بلا كلل- إلى أن تسمعه آذان الأحياء- في نهاية الأمر ويلتقطوا رسالته وهو ما حدث للتو. يقع على عاتقنا أن نكون لسان حال هذه الأغنية والرسالة التي ترددها عن أكثر الواجبات الإنسانية قداسة : واجب التضحية بالنفس فداء للآخرين. علينا أن نصون هذه الترنيمة في ذاكرتنا ، وأن نركع لأوامرها، إلى أن يحين اليوم الذي نصل فيه إلى " بلد الظل". عندئذ لن تموت أغنيتنا -هي الأخرى-  مثل هذه الترنيمة ، وسيظل صداها أبديا.
من أساطير الهنود الحمر ، ترجمة راوية صادق ، مجلة الكرمل . عدد 16 ، 1985. ص : 286 وما بعدها (بتصرف)
* ملاحظة النص واستكشافه :
1- العنوان : -  تركيبيا :هو مركب وصفي يتكون من صفة (الأبدية) وموصوف (الأغنية).
                    - معجميا : ينتمي العنوان إلى المجال الإنسانياعتبار الأغنية ميزة إنسانية يعبر من خلالها عن أفراحه أو أحزانه.
                     - دلاليا : يوحي العنوان بالخلود والاستمرار مما يجعله مرتبطا بماهو أسطوري لغير المسلم ، وبما هو إلهي للمسلم.
2- بداية النص ونهايته : تتضمن مؤشرات النص السردي (الشخصيات – الزمان –المكان ) بالإضافة إلى مؤشرات أسطورية تتجلى في بعض الأمكنة الخيالية مثل (خليج الثعابين – بلد الظل). وتنفرد نهاية النص بكونها تتصادى معى العنوان لأنها تشتمل على ألفاظ وعبارات تنتمي إلى الحقل المعجمي نفسه للأغنية الأبدية ، وهذه الألفاظ والعبارات هي : (الترنيمة – لن تموت أغنيتنا – سيظل صداها أبديا).
3- نوعية النص : نص حكائي أسطوري ذو بعد وطني / إنساني

* فهم النص :
1- الإيضاح اللغوي :
الأيكة : الشجرة العظيمة ذات أغصان كثيفة وملتفة حول بعضها
- بلا كلل : بلا تعب ، بلا ثقل أو إعياء
2- الحدث الرئيسي :
يحكي النص حكاية محارب هندي ضحى بنفسه لأجل وطنه ، وترك قصته عبرة لكل محارب عاشق للحرية ورافض للمحتل.

* تحليل النص :
1- أحداث النص :
أ – استعداد المحاربين لمواجهة العدو ومفاجأته
ب- جلوسهم تحت أيكة للستراحة ، وتمضيته الوقت في سرد بعض الأساطير.
ج- انبعاث صوت غريب بين الأشجار وبحثهم عن مصدره.
د- اكتشاف مصدر الصوت وسر الأغنية الأبدية.
2- الحقول الدلالية :
المعجم الحربي
المعجم الأسطوري
ساحة الحرب – المحاربين – معارك – سهام – سلاح – قوس – التضحية …خليج الثعابين  - زمن بعيد جدا – جعبة سحرية – طلسم – قوة خارقة – ظاهرة أشد غرابة – أوامر سرية – بلد الظل…
* الدلالة : تعزيز المعجم الحربي بالمعجم الأسطوري داخل النص  ينسجم مع رغبة الهنود الحمر في جعل حروبهم وتضحياتهم  أسطورة خالدة يتردد صداها باستمرار ، ويقتدي بها كل عاشق للحرية.
3- الرموز ودلالاتها :
لأن النص ذو طابع أسطوري ، فقد تضمن مجموعة من الرموز ذات دلالات عديدة :
الرموز
دلالاتها
- الأغنية- تستعمل للفرح والحزن وترمز للحرية والتضحية
- خليج الثعابين- اسم مكان لكنه رمز للدلالة على السم والخطورة ، والقتل من أجل الحياة
- بلد الظل- يرمز للراحة والاستقرار والطمأنينة التي ينشدها الهنود بعد نيل الحرية
- المحارب المجهول- رمز لكل إنسان مضح ومناضل ليضع كل منا نفسه مكانه ويقتدي به
- طلسم- يرمز إلى الغموض والسحر والسر الخفي
      
* التركيب والتقويم :

يتضمن النص رسالة وردت في نهايته وتتجلى في قول الزعيم : ((إن الموت نفسه لا يمكن أن يخرس صوت بطل كهذا ….)) ، فهي دعوة إلى التضحية بالنفس فداء للوطن ، وهي أيضا دعوة إلى التغني بالحرية والاستماتة في الدفاع عنها.
وعليه ، فالنص يحمل قيما منها :
- قيمة وطنية : تتجلى في أهمية التضحية في سبيل الوطن
- قيمة إنسانية : حيث يقدم النص بعض النماذج للصفات الإنسانية الإيجابية مثل : الشجاعة والإصرار والتحدي
- قيمة فنية : النص مبني وفق مقومات النص الحكائي الأسطوري المتسم بالعجائبية  والغرائبية التي تطبع معظم الأحداث والأماكن

إرسال تعليق

 
Top